فصل: تفسير الآيات (39- 41):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (34):

{إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)}
{إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فمن ذهب إلى أن الآية نزلت في الكفار، قال معناه: إلا الذين تابوا من شركهم وأسلموا قبل القدرة عليهم فلا سبيل عليهم بشيء من الحدود ولا تبعة عليهم فيما أصابوا في حال الكفر من دم أو مال، وأما المسلمون المحاربون فمن تاب منهم قبل القدرة عليهم وهو قبل أن يظفر به الإمام تسقط عنه كل عقوبة وجبت حقا لله، ولا يسقط ما كان من حقوق العباد فإن كان قد قتل في قطع الطريق يسقط عنه بالتوبة قبل القدرة عليه تحتم القتل، ويبقى عليه القصاص لولي القتيل فإن شاء عفا عنه وإن شاء استوفاه، وإن كان قد أخذ المال يسقط عنه القطع وإن كان قد جمع بينهما يسقط عنه تحتم القتل والصلب، ويجب ضمان المال وهو قول الشافعي رضي الله عنه.
وقال بعضهم: إذا جاء تائبا قبل القدرة عليه لا يكون لأحد عليه تبعة في دم ولا مال إلا أن يوجد معه مال بعينه فيرده إلى صاحبه.
وروي عن علي رضي الله عنه في حارثة بن يزيد كان خرج محاربا فسفك الدماء وأخذ المال، ثم جاء تائبا قبل أن يقدر عليه فلم يجعل علي رضي الله عنه عليه تبعة في دم ولا مال، إلا أن يوجد معه مال فيرد إلى صاحبه أما من تاب بعد القدرة عليه فلا يسقط عنه شيء منها.
وقيل: كل عقوبة تجب حقا لله عز وجل من عقوبات قطع الطريق وقطع السرقة وحد الزنا والشرب تسقط بالتوبة بكل حال، والأكثرون على أنها لا تسقط.

.تفسير الآيات (35- 38):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا} اطلبوا، {إِلَيْهِ الْوَسِيلَة} أي: القربة، فعيلة من توسل إلى فلان بكذا، أي: تقرب إليه وجمعها وسائل، {وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} تلخيصه: امتثلوا أمر الله تنجوا.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ} أخبر أن الكافر لو ملك الدنيا كلها ومثلها معها ثم فدى بذلك نفسه من العذاب لم يقبل منه ذلك الفداء، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
{يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} فيه وجهان، أحدهما: أنهم يقصدون ويطلبون المخرج منها، كما قال الله تعالى: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها} [الحج- 22] والثاني: أنهم يتمنون ذلك بقلوبهم، كما قال الله تعالى إخبارا عنهم: {ربنا أخرجنا منها} [المؤمنون- 107] {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ}.
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} أراد به أيمانهما، وكذلك هو في مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
وحكمه أن من سرق نصابا من المال من حرز لا شبهة له فيه تقطع يده اليمنى من الرسغ، ولا يجب القطع في سرقة ما دون النصاب عند عامة أهل العلم، حكي عن ابن الزبير أنه كان يقطع في الشيء القليل، وعامة العلماء على خلافه.
واختلفوا في القدر الذي يقطع فيه: فذهب أكثرهم إلى أنه لا يقطع في أقل من ربع دينار، فإن سرق ربع دينار أو متاعا قيمته ربع دينار يقطع، وهو قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم، وبه قال عمر بن عبد العزيز والأوزاعي والشافعي رحمهم الله، لِما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا ابن عيينة عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «القطع في ربع دينار فصاعدا».
أخبرنا أبو الحسن الشيرزي أخبرنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع سارقا في مجن ثمنه ثلاثة دراهم.
ورُوي عن عثمان أنه قطع سارقا في أترجة قومت بثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهما بدينار. وهذا قول مالك رحمه الله تعالى أنه يقطع في ثلاثة دراهم.
وذهب قوم إلى أنه لا تقطع في أقل من دينار أو عشرة دراهم، يُروى ذلك عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي.
وقال قوم لا يقطع إلا في خمسة دراهم يُروى ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه وبه قال ابن أبي ليلى، أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عمر بن حفص بن غياث أخبرني أبي أنا الأعمش قال: سمعت أبا صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده» وقال الأعمش: كانوا يرون أنه بيض الحديد والحبل. يرون أن منها ما يساوي دراهم.
ويحتج بهذا الحديث من يرى القطع في الشيء القليل، وهو عند الأكثرين محمول على ما قاله الأعمش لحديث عائشة رضي الله عنها: «وإذا سرق شيئا من غير حرز كثمر في حائط لا حارس له أو حيوان في برية لا حافظ له، أو متاع في بيت منقطع عن البيوت لا قطع عليه».
ورُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا آواه المُراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن».
وروي عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع».
وإذا سرق مالا له فيه شبهة كالعبد يسرق من مال سيده أو الولد يسرق من مال والده أو الوالد يسرق من مال ولده أو أحد الشريكين يسرق من مال المشترك شيئا: لا قطع عليه.
وإذا سرق السارق أول مرة تقطع يده اليمنى من الكوع، ثم إذا سرق ثانيا تقطع رجله اليسرى من مفصل القدم.
واختلفوا فيما إذا سرق ثالثا: فذهب أكثرهم إلى أنه تقطع يده اليسرى، ثم إذا سرق رابعا تقطع رجله اليمنى، ثم إذا سرق بعده شيئا يعزر ويحبس حتى تظهر توبته، وهو المروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو قول قتادة، وبه قال مالك والشافعي لما رُوي عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في السارق يسرق إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله، ثم إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله».
وذهب قوم إلى أنه إن سرق ثالثا بعدما قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى لا يقطع بل يحبس، ورُوي ذلك عن علي رضي الله عنه، وقال: «إني لأستحي أن لا أدع له يدا يستنجي بها ولا رجلا يمشي بها» وهو قول الشعبي والنخعي، وبه قال الأوزاعي وأحمد وأصحاب الرأي. قوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} نصب على الحال والقطع، ومثله: {نَكَالا} أي: عقوبة، {مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

.تفسير الآيات (39- 41):

{فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)}
{فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ} أي: سرقته، {وَأَصْلَح} العمل، {فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} هذا فيما بينه وبين الله تعالى، فأما القطع فلا يسقط عنه بالتوبة عند الأكثرين، قال مجاهد: قطع السارق توبته، فإذا قطع حصلت التوبة، والصحيح أن القطع للجزاء على الجناية، كما قال: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} فلابد من التوبة بعد، وتوبته الندم على ما مضى والعزم على تركه في المستقبل، وإذا قطع السارق يجب عليه غرم ما سرق من المال عند أكثر أهل العلم، وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي: لا غرم عليه، وبالاتفاق إن كان المسروق باقيا عنده يسترد وتقطع يده لأن القطع حق الله تعالى والغرم حق العبد، فلا يمنع أحدهما الآخر، كاسترداد العين.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به الجميع، وقيل: معناه ألم تعلم أيها الإنسان فيكون خطابا لكل أحد من الناس، {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} قال السدي واالكلبي: يعذب من يشاء: من مات على كفره، ويغفر لمن يشاء: الكبيرة من تاب من كفره، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يعذب من يشاء على الصغيرة، ويغفر لمن يشاء على الكبيرة، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} أي: في موالاة الكفار فإنهم لم يعجزوا الله، {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} وهم المنافقون، {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} يعني: اليهود، {سَمَّاعُونَ} أي: قوم سماعون، {لِلْكَذِبِ} أي: قائلون للكذب، كقول المصلي: سمع الله لمن حمده، أي: قبل الله، وقيل: سماعون لأجل الكذب، أي يسمعون منك ليكذبوا عليك، وذلك أنهم كانوا يسمعون من الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يخرجون ويقولون سمعنا منه كذا ولم يسمعوا ذلك منه، {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك} أي هم جواسيس، يعني: بني قريظة لقوم آخرين، وهم أهل خيبر.
وذلك أن رجلا وامرأة من أشراف أهل خيبر زنيا وكانا محصنين، وكان حدهما الرجم في التوراة، فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما، فقالوا: إن هذا الرجل الذي بيثرب ليس في كتابه الرجم ولكنه الضرب، فأرسلوا إلى إخوانكم من بني قريظة فإنهم جيرانه وصلح له فليسألوه عن ذلك. فبعثوا رهطا منهم مستخفين وقالوا لهم: سلوا محمدا عن الزانيين إذا أحصنا ما حدهما؟ فإن أمركم بالجلد فاقبلوا منه، وإن أمركم بالرجم فاحذروه ولا تقبلوا منه، وأرسلوا معهم الزانيين فقدم الرهط حتى نزلوا على بني قريظة والنضير فقالوا لهم: إنكم جيران هذا الرجل ومعه في بلده وقد حدث، فينا حدث فلان وفلانة قد فَجَرَا وقد أحصنا، فنحب أن تسألوا لنا محمدا عن قضائه فيه، فقالت لهم قريظة والنضير: إذًا والله يأمركم بما تكرهون.
ثم انطلق قوم، منهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسد وسعية بن عمرو ومالك بن الصيف وكنانة بن أبي الحقيق وغيرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدهما في كتابك؟
فقال صلى الله عليه وسلم: هل ترضون بقضائي؟ قالوا: نعم، فنزل جبريل عليه السلام بالرجم فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به.
فقال له جبريل عليه السلام: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا، ووصفه له.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تعرفون شابا أمرد أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا؟» قالوا: نعم، قال: «فأي رجل هو فيكم؟» فقالوا: هو أعلم يهودي بقي على وجه الأرض بما أنزل الله سبحانه وتعالى على موسى عليه السلام في التوراة.
قال: فأرسلوا إليه، ففعلوا فأتاهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت ابن صوريا؟» قال: نعم، قال: وأنت أعلم اليهود؟ قال: كذلك يزعمون، قال: أتجعلونه بيني وبينكم؟ قالوا: نعم.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أنشدك بالله الذي لا إله إلا هو، الذي أنزل التوراة على موسى عليه السلام وأخرجكم من مصر، وفلق لكم البحر وأنجاكم وأغرق آل فرعون، والذي ظلل عليكم الغمام وأنزل عليكم المن والسلوى، وأنزل عليكم كتابه وفيه حلاله وحرامه هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن؟».
قال ابن صوريا: نعم والذي ذكرتني به لولا خشية أن تحرقني التوراة إن كذبت أو غيّرت ما اعترفت لك، ولكن كيف هي في كتابك يا محمد؟ قال: «إذا شهد أربعة رهط عدول أنه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم»، فقال ابن صوريا: والذي أنزل التوراة على موسى هكذا أنزل الله عز وجل في التوراة على موسى عليه السلام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «فما كان أول ما ترخصتم به أمر الله؟»، قال: كنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فكثر الزنا في أشرافنا حتى زنا ابن عم ملك لنا فلم نرجمه، ثم زنى رجل آخر من الناس فأراد ذلك الملك رجمه فقام دونه قومه، فقالوا: والله لا ترجمه حتى يرجم فلان- لابن عم الملك- فقلنا: تعالوا نجتمع فلنضع شيئا دون الرجم يكون على الوضيع والشريف، فوضعنا الجلد والتحميم، وهو أن يجلد أربعين جلدة بحبل مطلي بالقار ثم يسود وجوههما، ثم يحملان على حمارين ووجوههما من قبل دبر الحمار ويطاف بهما، فجعلوا هذا مكان الرجم، فقالت اليهود لابن صوريا ما أسرع ما أخبرته به، وما كنا لما أثنينا عليك بأهل ولكنك كنت غائبا فكرهنا أن نغتابك، فقال لهم: إنه قد أنشدني بالتوراة ولولا خشية التوراة أن تهلكني لما أخبرته، فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما عند باب مسجده، وقال: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه، فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ}.
أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم قال: إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟» فقالوا: نفضحهم ويجلدون، قال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها لآية الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله: ارفع يدك، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، قالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، فقال عبد الله بن عمر: فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة.
وقيل: سبب نزول هذه الآية القصاص، وذلك أن بني النضير كان لهم فضل على بني قريظة فقال بنو قريظة: يا محمد إخواننا بنو النضير وأبونا واحد وديننا واحد ونبينا واحد، إذا قتلوا منا قتيلا واحدا لم يقيدونا وأعطونا ديته سبعين وسقا من تمر، وإذا قتلنا منهم قتلوا القاتل وأخذوا منا الضعف مائة وأربعين وسقا من تمر، وإن كان القتيل امرأة قتلوا بها الرجل منا وبالرجل منهم الرجلين منا، وبالعبد الحر منا، وجراحتنا على التضعيف من جراحاتهم، فاقض بيننا وبينهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
والأول أصح لأن الآية في الرجم.
قوله: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} قيل: اللام بمعنى إلى، وقيل: هي لام كي، أي: يسمعون لكي يكذبوا عليك، واللام في قوله: {لِقَوْم} أي: لأجل قوم {آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} وهم أهل خيبر، {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} جمع كلمة {مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِه} أي: من بعد وضعه مواضعه، ذكر الكناية ردا على لفظ الكلم، {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} أي: إن أفتاكم محمد صلى الله عليه وسلم بالجلد والتحميم فاقبلوا، {وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ} كفره وضلالته، قال الضحاك: هلاكه، وقال قتادة: عذابه، {فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} فلن تقدر على دفع أمر الله فيه، {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُم} وفيه رد على من ينكر القدر، {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} أي: للمنافقين واليهود، فخزي المنافقين الفضيحة وهتك الستر بإظهار نفاقهم، وخزي اليهود الجزية والقتل والسبي والنفي، ورؤيتهم من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيهم ما يكرهون، {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} الخلود في النار.